الست نفيسة وحكاية نضالها ضد الحملة الفرنسية

مكانش ينفع نتكلم عن مراد بك، ومانتكلمش عن زوجته الحكيمة الخيّرة الست نفيسة البيضا، واللي كانت على النقيض التام من شخصية زوجها.. في الوقت اللي كان زوجها بيقدم الطعام والسلاح للمحتل الفرنسي، كانت زوجته في القاهرة بتلعب دور هام في معاونة الشعب في ثورة القاهرة الأولى والثانية..
كانت نفيسة هانم أو نفيسة خاتون او نفيسة قادين أو الست نفيسة البيضا من أكثر الشخصيات النسائية شهرة فترة ما قبل الحملة الفرنسية علي مصر، بس مش لكونها زوجة مراد بك واللي كان مكروه من الشعب لأفعاله، ولكن لحبها للخير وقربها من الناس. كانت جارية من أصل شركسي جُلِبَت إلى مصر من الأناضول أو بلاد القرم أو حدود القوقاز.. كانت بيضاء البشرة بصورة ملفتة للنظر فاشتهرت من بداية حياتها باسم (نفيسة البيضا)، وبين المماليك اشتهرت باسم الست (نفيسة المرادية) نسبةً إلى زوجها الثاني مراد بك. عرفها الناس من اول ما دخلت في حريم علي بك الكبير زعيم المماليك، اعجب علي بك بجمالها وأحبها واعتقها وتزوجها وجعل منها (هانم) بمعنى الكلمة!.. بنى لها داراً خاصة تطل على بركة الأزبكية في درب عبد الحق عاشت فيها معززة مكرمة بين الخدم والحشم، واقطعها مجموعة من المحلات تدر عليها دخل كبير فعملت في التجارة واشتهرت بين الناس بعمل الخير، تعلمت العربية في سن مبكرة فصارت تجيد العربية والتركية قراءة وكتابة وكلاما، وتعرفت على كثير من التجار الفرنسيين فتعلمت منهم اللغة الفرنسية، وكانت محبة للعلم قارئة جيدة للكتب الأدبية والروايات والأشعار. ولما اجتمع الخونة لمحاربة، طلب محمد بك ابوالذهب من مراد بك (وكان من فرسان علي بك الكبير) الأنضمام اليه وخيانة سيده، فاشترط عليه بأن يفوز بالزواج من نفيسة هانم اللى كان بيحبها من زمان، وبيوافق محمد بك أبو الدهب وبينضم مراد بك لقواته وبيشترك في قتل علي بك الكبير عام 1773م ليتزوج بعدها مراد من الحسناء الجميلة الغنية، فكانت أجمل ثمن أو مقابل للخيانة.
وانتقلت بعدها الست نفيسة الى منزل زوجها مراد بك بميراثها اللي ورثته عن زوجها السابق علي بك الكبير وكان بحق ثروة طائلة، وزادها مراد بك الكثير من الهدايا والهبات فازدادت ثراءاً فوق ثراء، وعاشت معه حياة الترف والغنى بأملاكها التي شملت العديد من البيوت والقصور والوكالات التجارية جيشاً خاصاً من 400 مملوك لحماية ممتلكاتها وقصرها، وأسطولاً من خمسة سفن تجارية في النيل، و56 جارية يعملون على خدمتها الى جانب اثنين من العبيد الخصيان في حاشيتها الخاصة. وعاصرت نفيسة مع زوجها مراد بك موت محمد بك أبو الدهب وصراع زوجها مع العثمانيين على السلطة حتى انفراده بحكم مصر مناصفة مع ابراهيم بك لمدة تزيد على عشرين عاما. وبقدر ما كان مراد بك واحدا من كبار الخونة، كانت نفيسة امرأة رائعة وقوية في شخصيتها، وكانت خير سند وأخلص مستشار لزوجها مراد بك في الشأن العام. حاولت كثيرا وفي أكثر من مناسبة الحد من آثار المظالم اللي ارتكبها زوجها في حق المصريين، وكانت تعارضه دوما وهو مطلق السلطان على مصر في مصادرة أموال التجار الأوروبيين وإرهاقهم بالضرائب والغرامات. وكانت بالطبع التصرفات من أسباب أو ذرائع الحملة الفرنسية على مصر. ولمواقفها في حق التجار الفرنسيين بمصر أرسلت لها حكومة فرنسا هدية قيمة عبارة عن ساعة قيمة مرصعة بالألماظ سلمها لها مسيو ماجالون قنصل فرنسا العام بمصر.
وبعد دخول المحتل الفرنسي عاصرت هزيمة زوجها مراد بك أمام القوات الفرنسية في موقعة امبابة (الأهرام) في يوليو عام 1798، وفرار مع فلول قواته ومماليكه إلى الصعيد ليبدأ في شن حرب عصابات ضد الجيش الفرنسي. أما هي فرفضت ان تترك القاهرة وظلت في بيتها وعملت بذكاء على حماية أملاكها الضخمة الخاصة بها وبزوجها، وبسطت حمايتها على كثير من نساء المماليك المنكوبين، وواست عدداً كبيراً من الفقراء الذين نُكِبوا في الحملة الفرنسية من أهل القاهرة، ودفعت كثير من الغرامات المالية اللي كانت بتفرضها سلطات الأحتلال الفرنسي على المصريين وومكانوش بيقدروا غالبيتهم يدفعوها، فنالت مزيد من احترام المصريين والفرنسيين كمان!.. لأنها في الوقت نفسه، حافظت على علاقة مجاملة مع إدارة الحملة الفرنسية، لدرجة إنها سمحت بتمريض جرحى الجنود الفرنسيين بالأزبكية. وكمان استضافت نابليون وقواده على العشاء في قصرها، فشكرها نابليون واحسن اليها، كما كان قواد نابليون ورجاله كلهم يرعون جانبها ويعملوا لها ألف حساب لمكانتها بين الناس، حتى إن ديجنت كبير أطباء الحملة الفرنسية كان ألف كتاب باللغة العربية عن مرض الجدري في مصر وأهداها خمسين نسخة منه.
ولكن وبعد رفض زوجها التعاون مع نابليون فتوترت العلاقات بين نفيسة والفرنسيين، فإتهمها نابليون بإخفاء أموال المماليك في ثروتها، وأصدر قرار بمصادرة أملاك العديد من المماليك واسرهم وقامت هي بالتالي برعاية حريمهم في بيتها، وتَعيّنَ عليها أن تدفع فدية ضخمة (حوالي مليون فرنك فرنسي) مقابل الأفراج عن نساء المماليك وصيانة حرمتهن، فتنازلت عن الساعة الألماظ هدية فرنسا كنوع من الأحتجاج الشريف!.. فأخدها نابليون ولم يهتم ومنحها إلى عشيقته. ولكن بعد مغادرة نابليون لمصر عام 1799م أعلن أنه سيظل (صديقاً إلى الأبد) لهذه السيدة، لدرجة إنه بعث وهو في قمة مجده (امبراطورا على فرنسا) عام 1805م، أمر كتابي إلى قنصل فرنسا العام في مصر، بأن يبذل كل جهده لحمايتها ورعاية أمرها.
ولما تولى الجنرال كليبر قيادة الحملة خلفا لنابليون، تولى زوجها مراد بك حكم جنوب الصعيد بناءا على اتفاق بينهم تجلت معه اسمى معاني الخيانة لما بيشترك مراد بك لدعم القوات الفرنسية بالطعام والسلاح ضد المصريين في ثورة القاهرة الثانية، في حين كانت زوجته تساند الثوار وترعى من يفقد عائلته منهم!.. لغاية ما يصاب زوجها مراد بك بالطاعون ويموت في ابريل عام 1801 ويدفن في سوهاج. وبعد خروج الحملة الفرنسية من مصر في نفس العام، نجحت نفيسة بمهارة في الحصول على حماية البريطانيين اللي كانوا بسطوا نفوذهم في البلاد ولكن لفترة قصيرة. لغاية ما بيستعيد العثمانيين سيطرتهم على مصر من أول وجديد. وواصلت نفيسة البيضا بثبات سياسة حماية المماليك وأسرهم من النظام الجديد اللي كان شديد العدائية للمماليك لخيانتهم وانحياز كثير منهم لجانب الفرنسيين، فكانت ترعى اسرهم واولادهم لما كانت القوات العثمانية تعتقلهم او تصدر بحقهم احكام بالأعدام، فاشتهرت بين المصريين باسم (أم المماليك).
قد يكون فن ‏شخص واحد‏

 

Scroll to Top